vendredi 16 février 2018

من أجل ترابها

" لا زلت أذكر جيداً ذلك الربيع. فقد أفاق الناس على أهازيج واناشيد وطنية، وتدفقوا على العاصمة محتفلين بهذا اليوم التاريخي. ونهضت أنا على صوت المذياع وقد أعلن فيه مقدم الأخبار ' اليوم تحصلت تونس على استقلالها '. إمتلأ المنزل بزغاريد أمي وهي تعرك الطابونة وتوزعها على المارة أمام البيت. اختلطت دموع الفرح بدموع الحزن على فقدان خير شباب الأرض. و بين أم ثكلى ترفع صورة ابنها وأرملة تزين جدران غرفتها بصورة زوجها الشهيد تاهت أمي، فقد إستشهد ابي وهو يدافع على اراضينا في سهول الكاف ولم يتسنّ لي رؤيته، لكنني وجدته في شقيقي الأكبر محمود الذي كان منظماً لحركة المقاومة المسلحة.
أتذكر تماما لحظة استشهاده. عدت يوماً من المدرسة وأخذت أعدّ وجبتي بعد أن أفطرت، سقط مني قلمٌ تحت السرير مددت يدي وإذ بي أتحسس معدناً، نزلت على ركبتيّ وأخرجت كيساً أسوداً مملوءًا بالسلاح. ' أيعقل أن يكون أخي من المخربين الذين يتحدث عنهم الجنرال ميشال دائماً؟ أيعقل أن يكون أخي خائناً ؟' تساءلت في نفسي وأحسست أنا أخي مجرماً. اعدت الكيس إلى مكانه و غادرت صوب المدرسة. و في العشاء سألت أخي ' هل أنت من أولئك المخربين ؟ لماذا تضع السلاح تحت فراشي؟' نظر إلي أخي بعينين ملأهما الغضب و ملأ حر أنفاسه صدري حتى ظننت أنه سينفجر أمامي. أخذ يصيح في وجهي حتى جاءت والدتي مسرعةً ونهرته وهي تقول ' إنه لازال صغيراً ولا يعرف شيئاً عن الكفاح الوطني ' ( الكفاح الوطني..الكفاح الوطني ) ظلّت هذه العبارات تتكرر في أذني طيلة ليلٍ صاحبني فيه الأرق. أفقت صباحاً توجهت نحو المدرسة ولازال (الكفاح الوطني ) أمرا مجهولاً بالنسبة إليّ. دخلت القسم فسألت مسيو فرنسوا الذي كان متقناً للعربية عن معنى العبارة، حين سألته صمت و أخذت حدقتيه تتسعان بينما كان يلفحني بنظرات مُلِئت غيظاً. بقيت لمدة طويلة أتساءل في نفسي ' هل كل الذين حولي جهلة؟ أمي وأخي وحتى مسيو فرنسوا؟ ' بقيت هكذا حائراً حتى حلّت ليلة اسودّ فيها وجه السماء و عصفت رياح عاتية. انزوت أمي حذو الكانون وأخذت تردد ' سقف بيتي حديد - ركن بيتي حجر
فاعصفي يارياح - وانتحب يا شجر
واسبحي يا غيوم -- واهطلي بالمطر
واقصفي يا رعود - لست اخشى الخطر '
رددتها مرارا وتكراراً إلى أن صمتت حين سمعت طرقان عنيفاً يكاد يهوي ببابنا. نهضت مسرعاً حتى استطلع الأمر فزجرتني بشدةً كأنها تخفي شيئاً وكما يقول مثلنا التونسي ' قلب الأم خبيرها ' . فتحت الباب فدخل شباب ملثمون يحملون أخي بين أيديهم، كان فقدان للوعي بالكاد يستطيعون حمله، ثيابه ملطخةٌ بالدماء، يده اليسرى مقطوعة. اغلقت أمي الباب بسرعةٍ وسط ذهولي ودهشتي و أمرت الشباب بالإتجاه نحو الحديقة الخلفية. مدد أحد الملثمين أخي على التراب و نزع اللثام. إنه جارنا العم مصباح. لم أشأ ان استفسر عن شيءٍ حتى همّ بالحديث ' كنا متجهين نحو مقر القيادة حتى ننقل السلاح للإخوة في الجبال، اعترضتنا دورية المستعمر، تفحصوا وجوهنا وتثبتوا من هوياتنا ثم تركونا نمر. 
كان الاجتماع اليوم مشحونا جداً وكان الخوف ضيفا ثقيلاً. المهمة كانت صعبة، فهي المرة الاولى التي سننقل فيها بنادق وقنابل ومتفجرات من العاصمة إلى الجبال. إنتهى الاجتماع و عبّأنا حاجاتنا في السيارة وانطلقنا. كان الطريق موحشاً ، الظلام يخيم على الشوارع. كنا حذرين جداً، كل واحد فينا كان مستعداً للموت. ما فائدة الدماء إن لم تهدر في سبيل تونس! ما فائدة الأرواح إن لم تبذل في سبيل تونس! ما فائدة الأجساد إن لم تقدم قرابين للحرية! بينما نحن نسير لمحنا سيارات عسكرية كثيرة امامنا. أيقنّا حينها أنه كمين غادر! لقد اعتدنا غدرهم! يهاجمون بالليل و يخشون المجاهدين في النهار! يغتصبون النساء ثم يهربوا حتى لا تصطادهم رصاصات أسودنا! همّ السائق مراد بالعودة إلى الوراء و إذ بوابل من الرصاص يتجه نحونا. لقد باغتونا الكلاب ! نزلنا مسرعين من السيارة حتى نحتمي بها. قاومنا بشراسة باسلحتنا الخفيفة أمام رشاشاتهم وحصدنا ما شاء الله من الرؤوس. و فجأةً شرعوا في إرسال القنابل اليدوية، حينها بدأت الخسائر. أول قنبلة قتلت مراد والثانية فجرت السيارة والثالثة ... ' صمت قليلاً ثم بدأ في البكاء ' الثالثة مسكها محمود بيده حتى لا تقع علينا. فقطعت معها يده اليسرى ولكنه كان فرحان ويصرخ '' رخيصة يدي أمام تونس! رخيصة يدي أمام الحرية '' تلك الكلمات زادتنا قوة على قوتنا فنهضنا وصوبنا بنادقنا نحو العدو مرددين '' تحيا تونس! تحيا تونس !'' ومازلنا كذلك حتى رأينا أجسادهم تسقط أرضاً مُترنحة معلنة عن هزيمتهم. أخذنا في الهتاف و اكملنا طريقنا، اوصلنا السلاح وفي طريقة العودة أغمي على محمود ' كسرت دموع والدتي الصمت المخيم على البيت وأخذت تعانق محمود وهي تقول ' الحمد لله! الحمد لله ! لقد زفّ من هذا البيت شهيد في السابق واليوم ارتوت أرضه بدمائك الطاهرة! أفق يا محمود وأكمل مسيرتك ! لا تمت يا بني تونس تحتاجك! تونس تحتاجك حتى ترفع هذا العالم عالياً ' أتمت كلامها ورفعت علم تونس الذي لُفّت فيه يدي أخي العزيز. أفاق محمود و أخذ يفتح عينيه ببطءٍ و هو يتأوه. هرع الجميع نحوه ليطمئنوا عليه. كان يتألم بشدة ولم يقوى على النطق، أغمض عينيه وكأنه يستجمع قواه ثم قال رافعاً ما تبقى من يده وهو يبتسم ' إن تونس اليوم سعيدة! وإن والدي راضٍ عني وسألتقيه قريباً في الجنان. يا شباب لا تبخلوا بدمائكم من أجل تونس. هي أمنا! هي روحنا! آاااااه اني اشتم رائحة النصر في هذه التربة . يا أخي سمير أكمل مسيرتي ومسيرة والدنا
إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر''
ذكر أخي هذه الأبيات ونظر إلى السماء يستقبل الموت بالإبتسمات. اطلقت أمي زغرودة طويلة امتزجت بدموعها وقالت لي ' هذا هو الكفاح الوطني ' 
مرت على ذلك اليوم عقود و مرّ على يوم استقلالنا سنين و ها أنا اليوم متجه إلى بنزرت كي أخذ معركةً اتمنى أن تكون الأخيرة على وطني. سنطرد كل من تخول له نفسه الاعتداء علينا. هذا وعد يا وفاء. عديني أنت يا زوجتي العزيزة أن توصلي هذه المذكرة لابننا جهاد إن استشهدت ''
اغلقت كراس مذكرات والدي والدموع لا تنقطع من عيناي، علمت اليوم أني انتسب لعائلة مناضلة، جدي ووالدي و عمي كانوا أسود أشاوس بذلوا الغالي والنفس من أجل تونس.
تونس عروس المتوسط. تونس ملتقى الحضارات. تونس أرض الأحرار وجحيم الفجار. تونس منطلق الثورات. تونس مقبرة الخونة.
صدقت يا درويش ' كيف نشفى من حب تونس '

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire